• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المرأة وحق العمل

العلّامة الراحل السيِّد محمّد حسين فضل الله

المرأة وحق العمل

يعتبر الإسلام المرأة إنساناً مستقلاً من الناحية القانونية كالرجل، وليس لأحدٍ أية ولاية عليها إذا كانت بالغة رشيدة، إلّا في ما تتنازل هي عنه بقرارٍ شخصي على أساس التعاقد.

وعلى هذا الأساس، فإنّنا لا نجد للزوج سلطةً على زوجته في أن يمنعها من العمل، من حيث طبيعة العمل. ولكن المسألة تتخذ مجالاً آخر إذا اقتضى العمل خروجها من البيت. هنا تختلف الاجتهادات، فهناك اجتهاد لا يجيز للمرأة أن تخرج من بيت زوجها من غير إذنه. وهذا هو الاجتهاد الغالب لدى الفقهاء. وهناك اجتهاد آخر يراه بعض الفقهاء ـ ونحن نوافقه على ذلك ـ ومفاده أنّ لا مانع من أن تخرج المرأة من بيت زوجها بغير إذنه، في ما لا يتنافى مع حقِّه الزوجي الخاص في العلاقة الجنسية.

ويمكن للمرأة أن تحتاط لنفسها في هذا المجال، إذا أرادت أن تبقى في عملها بالاتِّفاق مع زوجها، بأن تشترط في نص عقد الزواج أن يكون لها الحقّ في ممارسة عملها أثناء الحياة الزوجية، كما كان الحال قبلها. فإذا اشترطت ذلك لنفسها فليس للزوج أن يمنعها منه.

من خلال ذلك نفهم أنّ الزوج ليس له أن يمنع زوجته من أيِّ عملٍ محلَّل شرعاً إلّا من خلال طبيعة ما يقتضيه هذا العمل من خروج المرأة من بيتها، باعتبار لزوم استئذان الزوج، إمّا مطلقاً أو في ما ينافي حقّه.

وفي مثل هذا المجال، فإنّنا لا نجد سلطةً للأب في أن يمنع ابنته البالغة الرشيدة من العمل، إلّا في الأمور المتعلقة بدائرة الإشفاق الأبوي على الولد. وهذا أمر يستوي فيه الابن والبنت، في تلك الأوامر الإشفاقية التي يكون عصيانها إساءةً للأب وعقوقاً له، في ما يتعلق بالجوانب الحياتية التي تمثّل جانب الخطر على حياة الولد، سواء أكان رجلاً أم امرأة، فهي مستقلة عن أبيها استقلالاً كاملاً في كلّ شيء، كما هي مستقلة عن أي إنسان آخر، مع التحفظ الذي ذكرناه بالنسبة إلى الأوامر الإشفاقية.

وإذا كان بعض الفقهاء يرى أنّه لابدّ من استئذان الأب، في زواج الفتاة العذراء، فليس ذلك داخلاً في باب الولاية، بل هو حكم تعبدي من وجهة نظر هذا الاجتهاد الذي قد تخالفه اجتهادات أخرى ناشئة من بعض المصالح المختلفة في تحييد الفتاة من الوقوع في تجربة صعبة، نتيجة قلة خبرتها أو ما إلى ذلك.

أمّا بالنسبة للزوج، فمن الطبيعي أن يقيد عقد الزواج حرّية المرأة، انطلاقاً من أنّها تتنازل عن حرّيتها بموجب هذا التعاقد. ومن الطبيعي أنّنا عندما نقول إنّه ليس للأب أن يمنع ابنته من العمل، وليس للزوج أن يمنع زوجته من العمل إلّا في نطاق التحفظ الذي ذكرناه، فإنّنا نتحّدث عن ذلك في الأعمال الشرعية في هذا المجال. أمّا إذا أرادت المرأة أن تقوم ببعض الأعمال المنافية للشرع فللأب وللزوج، وأيّ إنسان، أن يمنعها. لكن ليس من خلال سلطة الأب والزوج بل من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يمكن منع الرجل من هذا العمل المنافي للأخلاق في هذا الاتجاه.

 عمل المرأة الرسالي

يطالعنا القرآن الكريم بنداءات كثيرة تدعو الإنسان إلى أن يتحمل المسؤولية المرتبطة بالحياة، على مستوى حركة الرسالة وعلى مستوى حركة المجتمع، وفي مواجهة التحديات التي يمكن أن تنطلق لتحاصر الرساليين في أداء رسالتهم، والناس في حرّيتهم، وفي قضاياهم المصيرية العامّة. إنّنا نجد في أنّ القرآن الكريم في نداءاته لا يفرق بين الرجل والمرأة. وعندما نقرأ كلّ النِّداءات التي وردت بعنوان: يا أيّها الناس، أو بعنوان: يا أيّها الذين آمنوا، فإنّنا نفهم منها النداء الموجه إلى كلّ الناس وإلى كلّ المؤمنين من دون فرق بين الرجل والمرأة.

ولعلّنا نستطيع أن نستوحي ذلك، ولو من بعيد، في تأكيد القرآن الكريم، عند تعرضه للثواب الذي يعطيه الله تعالى للعاملين في خطِّ الصالحات، فإنّ هناك تركيزاً في أكثر من آية على تحديد اسم الذكر والأنثى؛ الأمر الذي يوحي بأنّ كلّ ما تصدق عليه صفة عمل صالح، فإنّ المرأة معنيةٌ به كما الرجل معني به. وإنّ الله يثيبها عليه كما يثيب الرجل على ذلك. من خلال ذلك نفهم أنّ القضايا العامّة في الإسلام مشتركة بين الرجل والمرأة في حركة المسؤولية، تبعاً للطاقات التي يملكها هذا الفريق أو ذاك، إلّا ما نص عليه الإسلام. ومن ذلك الجهاد الذي أعفى المرأة منه، ولكنّه لم يُحرِّمه عليها، بل ربما رأينا في أحاديث السيرة النبوية أنّ المرأة تقوم بدور في الجهاد. فكان لها دور المسعفة والممرضة والساقية للعطاشى، وما إلى ذلك من الشؤون التي تتعلق بتلبية حاجات الجهاد والمجاهدين قبل المعركة وأثناءها وبعد انتهائها. إنّنا نعتبر أنّ المسؤولية عامّة إلّا في ما استثناه الإسلام. ومن ذلك الأعمال التي نصت الشريعة على أن تخص بعضها بالرجل، كالقضاء والولاية وما إلى ذلك من الأعمال. نستطيع أن نستوحي ذلك مما جاء في قوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (التوبة/ 71)؛ حيث اعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية النساء والرجال معاً. إنّنا قد نجد تأكيداً على مسألة دور المرأة الأساسي في تربية الأطفال وفي رعاية الزوج وفي إدارة الحياة الزوجية. ولكن ليس معنى ذلك أنّ هذا هو دورها الوحيد، فنحن، مثلاً، في المقابل، قد نلاحظ أنّ الله كلف الرجل بأن يؤمِّن قوت عياله وبأن يسعى من أجلهم، وبأن يحصل الرزق، وما إلى ذلك. ولكن هذا ليس هو دور الرجل الوحيد، كما أنّ دور المرأة أن تكون ربة البيت ليس هو دورها الوحيد. فللمرأة ساحة واسعة تستطيع أن تقوم فيها بمسؤولياتها، في ما يمكن لها أن تتحمله من مسؤولية في نطاق ثقافتها وفي نطاق طاقتها الاجتماعية التي تملكها، بحيث يمكنها أن تصل إلى نتائج كبيرة في ذلك، كما هو دور الرجل في الساحة العامّة خارج نطاق مسؤوليته العائلية.

فإنسانية الإنسان: ذكراً كان أم أنثى تتّسع لكلّ جوانب الحياة. إنّ الإسلام لم يلغِ إنسانية المرأة، ولم يعفِ المرأة من مسؤوليتها.

فنحن، عندما نواجه المسألة من الناحية الشرعية الخاصّة، نرى أنّه إذا كانت المرأة تعرف أنّها تستطيع أن تهدي جمهوراً من النساء أو من الرجال، فإنّه يجب عليها أن تقوم بذلك في دائرة إمكاناتها الطبيعية والواقعية، حتى إنّها إذا كانت تستطيع توسعة هذه الإمكانات، من دون أن تضغط على ظروفها، فإنّه من الواجب عليها أن تفعل ذلك. وربما تكون المصلحة في أن يكون القيام بهذا الدور الثقافي من بعض مسؤولياتها الخاصّة، بحيث تتقدم المصلحة العامّة على المصلحة الخاصّة في بعض الحالات. وهكذا نجد أنّ المرأة تستطيع أن تواجه كلّ المواقع العملية المتصلة بالرسالة وبالحياة، والمتصلة بالمجتمع بشكل عام، في ما يمكنها أن تقدمه، سواء على مستوى القضايا الإلزامية التي يجب عليها القيام بها أم على مستوى القضايا غير الإلزامية التي يستحب لها القيام بها.

علينا إذن أن ندرس المسألة من خلال النظرة الواسعة التي نستوحيها من دور الإنسان في الحياة، في ما أراد الله تعالى له أن يقوم ببناء الحياة على أساس الخلافة العامّة التي تأخذ من كلّ إنسان طاقته. فعلى كلّ إنسان أن يبذل طاقته في المجال الذي يستطيع أن يحرّكها فيه.

إنّ الفكرة التي تحبس دور المرأة في نطاق خاص، أو تحبس دور الرجل في نطاق خاص، هي فكرة غير عملية وغير صحيحة. وقد اعتاد الناس على أن يجعلوا لكلّ إنسانٍ دوراً بحسب اختصاصه. كما نلاحظ أنّ الناس، في بعض المجتمعات الإسلامية، يحصرون دور الفقيه في العمل الفقهي، ولا يريدون له أن يتدخل في الأعمال الاجتماعية أو السياسة من خلال النظرة التي ترى أنّ الدِّين لا يتدخل في السياسة. وربما يأخذون على المهندس أن يتدخل في القضايا الخارجة عن اختصاصه إذا كانت لديه إمكانات في تحريك حياته. في هذا الاتجاه. إنّنا نعتقد أن كلّ إنسان يملك طاقات متنوعة ومتحركة ينبغي له، وقد يجب عليه، أن يحرّكها بأجمعها لحياة الناس كلّها بحسب طاقاته وإمكاناته. وهذا بالنسبة للمرأة قد يكون طبيعياً، لأنّ لها المجال الواسع في ذلك، إذا أحسنت إدارة وقتها واستغلاله كما هو بالنسبة للرجل. لأنّنا نجد أنّ كثيراً من الأمور التي تستهلك حياتنا يمكننا أن نختصرها وحتى أن نلغي جزءاً منها.

 

المصدر: كتاب تأمّلات إسلامية

ارسال التعليق

Top